يتضح ان موضوع علم الفلسفة هو: «الموجود بما هو موجود»، أى انها تتناول دراسة الموجود بشكل عام، لتحدد احكامه بغض النظر عن خصوصياته. فمثلاً: ان البحث عن العلّة و المعلول لايختص بموجود دون غيره، بل هو شامل لكل موجود؛ بينما البحث عن تركيب الماء و درجة انجماده و غليانه وبقية خواصه، بحث عن الموجود بما هو ماء، له وجوده الخاص. و اما الإلهيات بالمعنى الاخص فانها تبحث عن وجود اللّه تعالى و صفاته و تختص به ولاتبحث عما سواها.
ودراسة الموجود بشكل عام التى تتناول الموجودات مجردها و ماديها، يُطلق عليها اِسم «الميتا فيزيقا» و قد تصور البعض خطأ، انها تختص بالموجودات المجردة غير المادية، الا أن الصحيح شمولها للموجودات المادية و المجردة على حد سواء. فالبحث عن العلة و المعلول، والوجوب و الامكان، و الحادث و القديم، و القوة و الفعل و ما شابهها لايختص بالموجودات المجردة غير المادية بل يشملهما معاً.
ومن الجدير ذكره ان الميتافيزيقا مأخوذة من اصل يونانى هو متاتافوسيكا اى مابعد الطبيعة و حوِّرت بالعربية الى (ميتافيزيقا) و حسبما يعتقده مؤرخوا الفلسفة، فان هذه الكلمة أستعملت لاول مرة فى قسم من فلسفة ارسطو المتناولة لاحكام الوجود بشكل عام، و حيث ان هذا القسم من بحث الفلسفة قد كتبه ارسطو حسب ترتيبه بعد بحث الطبيعيات، لذلك فقد أطلق عليه اسم ميتافيزيقا، اى ما بعد الطبيعة.
أهمية و فائدة الفلسفة
تراود الانسان أحياناً و قد تلاحقهُ تساؤلات حول الوجود و معناه؛ و هل هو متناه محدود أو مطلق لامحدود؟ و كيف وجد و هل هو فى غنى عن علةٍ توجده او مفتقر اليها؟ و هل للّه خالق او هو فى غنى عن كل خالق؟ و لماذا لايُرى اللّه جهرة؟!
و من جهة اخرى فإن الإنسان، هذا الموجود العملاق الذى حَلَّق فى آفاق السماء و نفذ الى أعماق الارض و قعر المحيطات و فلق الذرة و ابتكر العجيب و الغريب، تراه حائراً يعيش الضياع و السأم؛ اذ لاهدفَ حقيقى يصبو اليه و لا رؤية كونية واضحة يمتلكها إزاء الوجود و لا شمولية ولا انسجاماً يلمسه بين مفردات الكون و فصوله، ومن اَجل ذلك فانه لا يعرف لماذا وضع قدميه فى هذا العالم؟ و
لماذا يُفرض عليه الخروج منه مرة اخري؟ و لماذا تكون الحياة جميلة إبان الطفولة و الشباب، ثم تغدو رذيلة منغصة عند الشيخوخة و أرذل العمر؟!
و من هنا فنحن بحاجة الى ما يخفف قلقنا و ينزع سأمنا و يبدل ضياعنا و ضلالنا الى هدى و نور و رَوْح و راحة، و الفلسفة تؤدى هذا الدور؛ لانها تعطى لكل ماتقدم من تساؤلات، اجابات مُبيَّنة و ذلك بتحديد رؤية كونية واضحة عن الكون و الوجود و الحياة، لتتحدد لنا معالم المبدأ و المنتهى و السبيل بينهما. و بعبارة اخري: ان الفلسفة تميط اللثام عن التوحيد و المعاد، والنبوة التى تُعد سَبيلاً للوصول الى شاطيء المعاد بأمان بماتتضمنه من شرائع و مناهج و احكام، فلا يغدو وجود الانسان عبثاً و لايُمسى كريشةٍ فى مَهب الريح ، بل يعرف نفسه و يعرف انه من أين و فى أين و إلى أين.
و اذا كان دورالفلسفة الكشف عنالمجاهيل، و انتشال الانسان من حالات الإبهام والضياع بحل شبهاته فى ما يرتبط باصل الوجود و مآله و حقيقته، فلا نبالغ ان اطلقنا اسم العلم عليها؛ لان العلم يقوم بتسليط اضوائهِ الكاشفة على ظلمات المجاهيل ليُسفر عن هويتها و حقيقتها، و هذا بالضبط ماتؤديه الفلسفة لقرّائها و دارسيها.
نعم، ان أُريد من العلم حَصيلة الأفكار و النتائج التجريبية التى يتوصل اليها الانسان فى مختبره او فى مجال الطبيعة، فلا يصح حينئذٍ اطلاق اسم العلم على الفلسفة بهذا المعني، بل و كذلك لا تصح تسمية كهذِهِ على التأريخ و الجغرافيا، و الفقه و بقية العلوم الانسانية غير التجريبية.
اساليب التحقيق العلمى :
تختلف اساليب التحقيق العلمى باختلاف ميادينها و مجالاتها، و ذلك لانك على سبيل المثال تجد فرقا واضحا بين البحوث التالية:
أ ـ البحث فى تاريخ نشوب الثورة ضد الإنجليز فى العراق.
ب ـ البحث فى انواع الألوان.
ح ـ البحث فى صياغة قانون عام فيما يرتبط بتمدّد الحديد بالحرارة.
فالبحث الاول يتناوله الاسلوب النقلى التاريخى بالدرس و التحقيق، و لادور للأساليب العقلية و التجريبية فى ذلك ؛ إذ ان الانسان الذى لم يعاصر حدث الثورة ضد الإنجليز فى العراق مهما حاول بعقله و تجربته معرفة ذلك، فسوف يعجز عنه و لايتوصّل الى مايريد. و اما البحث الثانى فانه من مختصات الاسلوب التجريبى الحسى و لا دور للعقل و النقل فيه، فاذا حُرِم الانسان باصرته فانه لنيحظى بمعرفة اللون الاحمر او غيره من الالوان مهما وصفها الواصفون بنقلهم و مهما استدل اهل البرهان عليها بعقولهم؛ وهكذا الحال بالنسبة الى البحث الثالث فانه وقْفٌ على الاسلوب العقلي، و لا نصيب للاسلوب التجريبى و النقلى فيه مهما جرّب المجرّبون و نقل الناقلون ذلك، اذ ان كل ما يجرّبونه و ما ينقلونه لايستوعب كل ما هو موجود او مفترض من قطع الحديد المحكوم عليها بالتمدّد.
و مباحث الفلسفة تعتمد على الاسلوب العقلى فى تحقيقاتها و دراساتها لمسائلها الفلسفية، الا انها قد تعتمد احياناً على ظاهرة تجريبية لتجعلها منطلقاً لدراساتها العقلية و التأملية.(2)
ثم ان عملية الكشف عن مجهول بواسطة معلوم آخر تتم عبر طرق ثلاثة من الاستدلال:
1ـ القياس:
و هو قولٌ مؤلفٌ من قضايا متى سُلِّمت لزم عنه لذاته قولٌ آخر، كما لو نقلت حكم الموت الثابت للإنسان الى سقراط الذى هو فرد من افراد الانسان. فتقول :
سقراط انسان.
و كل انسان فان.
فسقراط فان.
و مثل هذه الحركة الفكرية يطلق عليها فى المنطق اسم «القياس» و هو مفيد لليقين فى ظل شروط معينة و هى فيما اذا كانت مقدمات القياس يقينية، و قد تم تنظيم القياس بشكل صحيح. و قد خصص المنطقيون جانباً مهمّاً من المنطق الكلاسيكى لبيان شروط مادة و صورة القياس اليقينى و هو (البرهان).(3)
2ـ الاستقراء:
و هو الانتقال من حكم جزئيات الى حكم كليّتها، و هو على نحوين: استقراء تام و استقراء ناقص؛
اما الاستقراء التام؛ فهو من قبيل الحكم بالجد و المثابرة على كل من هو موجود
فى المدرسة بعد اجراء اختبار لجميع من كان فيها من الطلاب.
و اما الاستقراء الناقص: فهو من قبيل الحكم على جميع اهل البلد بالاستقامة و حسن السيرة من خلال معاشرة عدد منهم.
3ـ التمثيل:
و هو الانتقال من حكمِ جزئيٍ الى حكمِ جزئيٍ آخر لاشتراكهما فى معنى جامع بينهما، بحسب الظن او الوهم، كما لو منع الوالد ولده عن معاشرة صديق من اصدقائه، الا أنَّ الولد لميُعرِض عن معاشرة هذا الصديق فحسب، بل انه اعرض عن صديق آخر له ظناً منه ان العلّة فى المنع هى عنوان الصداقة، فانتقل من حكم الاول الى الثانى لمشابهتهما فى عنوان الصداقة.
و قد صرَّح اهل المعقول ان القياس البرهانى بكل أشكاله المنتجة يُفيدُ اليقين و القطع، كما ان الاستقراء التام يفيد ذلك ايضاً، و اما الاستقراء الناقص و التمثيل فلا يفيدان سوى الظن؛ و من الواضح ان المفيد فى الاستدلال هو اليقين لا الظن، لان الظن لايغنى عن الحق شيئاً.