العلوم نشأت في أحضان الفلسفة وترافقا دهرا طويلا من الزمن، ومازال هناك من يصر على الخلط بينهما في محاولة لتغيير طبيعة الفلسفة على نحو يتوافق مع العلم وقواعده ومسلماته ومعادلاته.
لقد حاول فعلا بعض الفلاسفة تحويل الفلسفة إلى علم، ومن هؤلاء هيجل الذي قال:«إن الأمر الذي عقدت عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به وهو حب العلم من أجل أن تصبح علما حقيقيا»(2) ويشارك هيجل هذا الأمل قديما وحديثا فلاسفة آخرون: (أفلاطون، هوسرل(3)، بعض المناطقة الوضعيين... )، ولكن هذا الأمل يبدو مستحيل التحقيق، ولا ينتج من هذه الجهود إلا رأي فلسفي آخر دون أن يكون له أثر يذكر في إحداث تغيير حقيقي قابل للذكر في هيكل وبنيان الفلسفة، ولأن طبيعة الفلسفة أنها تناقش قضايا غير محسومة فكيف يمكن أن تكون علما؟! ولأن هناك فروقا جوهرية بين العلم والفلسفة على نحو ما نذكره.
ولا يعني هذا الكلام أن العلاقة بين الطرفين مقطوعة أبدا، أو أن هناك حالة تناقض بين الطرفين، بل إن هناك الكثير من نقاط التلاقي، والاعتماد والتعاون والتكامل، والتاريخ المشترك، وكل ما في الأمر أن الطبيعة مختلفة بسبب اختلاف الوظائف والأدوات والمجالات والاهتمامات، وخطأ اعتقد بعض الناس أن العلم قد يكون بديلا عن الفلسفة (4)، وأن الفلسفة لم يعد لها مجال في عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، وتعدى هذا الاعتقاد التقديسي الخاطئ بالعلم حتى على الدين، حيث ظن البعض أن التطور العلمي والاكتشافات الحديثة يمكن أن تجيب على الأسئلة الرئيسية للوجود، وتخلق نظاما اجتماعيا بديلا عن تشريعات الدين التي نزلت في أزمنة مختلفة(5)!!
يقول د. عرفان عبد الحميد: «ومع مجيء القرن السابع عشر دخل حلبة الصراع، وبرز على مسرح التدافع والخصام مولود جديد، بمنهج مستحدث نقيض ومخالف للدين والفلسفة على حد سواء وحاول هذا القادم الجديد بكل ما أوتي من سحر العقل المتوثب إلى التجديد وفتنة العلم الوضعي المتبجح بأبهة إنجازاته المدهشة، التي قلبت المفاهيم السائدة جملة وتفصيلاً، إقصاء الدين والفلسفة معاً عن دائرة مناهج البحث وطرائق اكتساب المعرفة الحقة، فكان ذلك إيذاناً بولادة العلم الوضعي الطبيعي الذي اندفع بقوة متسارعة للاستحواذ على كامل النشاط الإنساني والاستئثار بكل مجالاته، وادعاء احتكار الحقيقة والمعرفة الحقة (true knowledge) بدعوى أن الدين مجرد خرافات مبتدعة مختلقة (Myth or Superstitions)، وأن الفلسفة جهد عبثي ضائع لا طائل من ورائه (Mere Futile Effort) وهكذا أصبح العلم والمعرفة الحقة في القرن التاسع عشر عنواناً لما يعرف بالفلسفة الوضعية (Positivism) التي صاغ قواعدها المنهجية مشاهير الوضعيين أمثال أوجست كونت (ت1857م) (6).
لو نظرنا إلى العلاقة التاريخية بين العلم والفلسفة نلاحظ أنهما نشآ مع بعض، وكأنهما موضوع واحد لا حدود بينهما ولا فواصل، «ولا عجب أن ظل العلم غير متميز عن الفلسفة، ولا الفلسفة عن العلم طوال قرون متعددة، والواقع أن العلوم خاصة الفيزياء، والفلك، والرياضيات، وعلم النفس كانت كلها منضوية تحت لواء الفلسفة، وهذا هو السر في أن الفلاسفة القدامى كانوا علماء كذلك، فكانت كتاباتهم تشتمل على مباحث فلسفية ومباحث علمية على حد سواء»(7).