ما أشد وقع الوداع على النفس،وما أعظم ألم الفراق ،ضيف كريم ،بالأمس القريب يهنئ بعضنا بعضا بقدومه ،واليوم نودعه..فما أسرع انقضائه.. وما أعظم مرارة رحيله.
لقد كان السلف الماضين ولازال الصالحون وأهل الخير يشق عليهم تصرم أيامه، ويشتد عليهم مفارقته..كيف لا؟! وهو شهر المغفرة والرحمة والعتق من النيران..شهر القرآن والبر والإحسان..
ترحل شهر الصبر والهفاه و انصرما ... و اختص بالفوز في الجنات من خدما
و أصبح الغافل المسكين منكسرا ... مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما
من فاته الزرع في وقت البذار فما ... تراه يحصد إلا الهم و الندما
هاقد رحل الحبيب شاهدا لنا أوعلينا بما أودعناه فيه من أعمال..لقد كان مضمارا وميدانا يتسابق فيه المتسابقون ،ويتنافس فيه المتنافسون ،فسبق أقوام ففازوا ،وتأخر أقوام فخسروا
(كما قال الحسن البصري رحمه الله)...
وأقوام خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم..
* ولنا مع رحيله وقفات ثلاث:
أولها: مما أثر عن سلفنا الصالح رحمهم الله: (بئس القوم لايعرفون الله إلا في رمضان)فرب الشهور واحد!فكم ممن رأينا لايعرف طريق المسجد إلا في رمضان!وخروجه إذانا منه بأخرعهده بالصلاة والقيام والقرآن،فاللهم لاتمكر بنا..
قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف (1/ 158):
(السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة و الصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام و كثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه و يشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام والليالي ليعودوا إلى المعصية و هؤلاء مصرون على ما فعلوا و هم يعلمون فهم هلكى و منهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان) .
ورحم الله أقواما أيقنوا أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، فتخذوها لجة ،وجعلوا الأعمال الصالحة فيها سفنا لنجاتهم ، وتزودوا منها بخير زاد للقدوم على الله ،وتأهبوا للعرض عليه..
باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له و يستعدون بالأطعمة و غيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت : و أنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم ..
ثانيها: كان سلفنا يشتد عليهم الخوف من عدم القبول، ورد العمل..قال جل شأنه : (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)أي يعملون الأعمال الصالحة وقلوبهم خائفة ألاتقبل منهم لأنهم موقنون باليوم الآخر والرجوع فيه إلى الله عز وجل..
روى أحمد (25302)،والترمذي(3175)، وابن ماجة (4198)،والحاكم في المستدرك (3486)عن عائشة رضى الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } قالت عائشة هم الذين يشربون الخمر ويسرقون قال لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات .والحديث صححه الإمام الذهبي في تلخيصه للمستدرك(2/472) والحافظ ابن كثير في تفسيره(1/263)
وقد جاء عن المعلى بن الفضل وبشر الحافي وغير واحد من السلف أنهم كانوا عند خروج رمضان يدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان..
قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف (1/232)مختصرا
السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل و إكماله و إتقانه ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله و يخافون من رده و هؤلاء الذين : { يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة }.روي عن علي رضي الله عنه قال : كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل ألم تسمعوا الله عز و جل يقول : { إنما يتقبل الله من المتقين }.قال ابن دينار : الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل .
و قال عبد العزيز بن أبي رواد : أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان : يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه و من هذا المحروم فنعزيه
و عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه كان يقول : من هذا المقبول منا فنهنيه و من هذا المحروم منا فنعزيه أيها المقبول هنيئا لك أيها المردود جبر الله مصيبتك)..
وليعلم أن من علامة قبول الحسنة والطاعة كما ذكر غير واحد من أهل العلم أن تتبع بالطاعة والعمل الصالح.
وثالث هذه الوقفات : لقد كان رمضان فرصة للتغيير، فإياك يامن عقدت العزم على التوبة ،وعهدت الله على الاستمرار على الطاعة، أن تنكص على عقبيك ..
تقول عائشة رضى الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته رواه مسلم(141)..وعمل المؤمن لاينقطع إلا بالموت ،(وعبد ربك حتى يأتيك اليقين)..
نسأل الله أن يعيد علينا رمضان أعواما عديدة ،وأزمنة مديدة ، وأن يعيده على الأمة الإسلامية وقد تحقق لها ماتصبوا إليه من العزة والتمكين والنصر على الأعداء..
كتبه/
عضو الدعوة بوزارة الشئون الإسلامية
سعد بن ضيدان السبيعي
30/9/1427هـ