إن الانتقال إلى مرحلة التغيير وتجلي ملامح الالتزام على سلوك الملتزم الجديد لابد أن يوازيَه تغييرٌ في مشاغل القلب واهتمامات الذهن وطريقة النظر إلى الحياة، فليس الالتزام مجرد أداء خمسة فروضٍ في اليوم والليلة في حين يعيش القلب وحشة الذكر ووصال السماء!
وهذه من النقاط التي يقع فيها الكثير من الملتزمين الجدد، إذ يكرِّس وقته في شكله ومظهره الملتزِم في حين روحُه لم تلتزم بعدُ ذلك العِناق السماوي، وقد يؤدي صلاته بانتظامٍ ويحافظ على أوقاتها ولكنها صلاةٌ تفتقد حضور الروح واستشعار الإيمان، ويعود تشخيص هذه الحالة إلى كونه يؤدي العبادة حركةً لا روحًا، ولأنه يهتم للشكل وينسى اللبّ… ينسى المضخة التي إن فقدَتْ الزادَ والتزود ضعُفت وهان عليها التراجع.
ولهذا فإن التركيز في بداية الطريق على الالتزام بالصلاة لابد أن يرافقه الحرص على العبادات القلبية التي تؤهل الملتزم لخوض الصعاب وتحدي العقبات التي تتخلل مسيرة الالتزام.
واقع الصلاة في حياة الالتزام
والصلاة فرضٌ من فروض الإسلام الالتزام بها بلا شكٍّ سيعطي الحياة طعمًا جديدًا… ولكنَّ التزامها باجتهادٍ في الخشوع سيعطي الحياة طعمًا أكثر رُقيًا من الانتظام والتوازن، وشعور الاستقرار والسكينة، فبالصلاة قد وضعْتَ لَبِنَةً أساسيةً كانت تفتقدها نفسُك حين كنت غافلًا، فما إن وضعتَها في مكانها حتى اتزن البناء واستقرتْ النفس، ذلك لأن الصلاة عماد الدين بها يستقيم البناء.
وكونَك لم تعتَدْ على صلاةٍ منتظَمةٍ في خمس أوقاتٍ قد يصيبك فتورٌ أو كسلٌ أو ربما نسيانٌ، فبادر بالمعالجة بذكر الله في كل يومٍ، وكونَك في بداية الطريق فإنَّ التزام الاستغفار بوِردٍ يوميٍ سيكون سببًا مهمًا في تغيير حياتك تغييرًا لن تتوقعه، ولماذا الاستغفار بالذات فلأنك في هذه المرحلة أكثر حاجةً للاستغفار كمُقبلٍ تائبٍ، ولأنها تنقيةٌ للقلب ومحوٌ للذنوب وسواد الفتن، وتقويةٌ للجوارح والنفس لخوض صعاب الوجود
إن أنت داومتَ على ورد الاستغفار اليومي واقتطعت له وقته ولم تتنازل عنه قطُّ ولم تعجزْ عنه أو تَكِلَّ فستتذوق متعةً من نوعٍ خاصٍّ! وما أسهل ذكرَ الله، فأنت تستطيع أن تذكُرَه قائمًا أو مستلقيًا، راكبًا أو راجلًا، في نفسِك أو بصوتك، هي عبادةٌ حرةٌ غيرُ مقيدةٍ بوقتٍ ولا بطريقةٍ بعينها، استغفر الله مئةَ مرةٍ كحدٍ أدنًى في اليوم، ولن ترى بعدها إلا التيسير في أمور حياتك كلها وعلى رأسها إقامة الصلاة.
لصلاة الفجر نفحاتٌ خاصة
الشيطان سيتسلل إليك في وقت صلاة الفجر ليثنيَك عن خيرها، وعن أجرها وبركتها، فقاوِمْه بالأخذ بالأسباب والنوم في وقتٍ لا يحرِمُك الاستيقاظ حينَ تحينُ، وعالج أي عجزٍ بفترة قيلولةٍ تَقيلُ فيها حين لا تَقيلُ الشياطين، فيأخذ جسدك الأسباب التي تمنعه من تضييع فرضٍ عظيمٍ كصلاة الفجر. وتذكَّرْ (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [1] واحتسِبْ كل ما تبذله من جهدٍ وكل ما تنويه من فعلٍ يقربك من الله فالاحتساب عبادةٌ قلبيةٌ قلما يتذكرها الناس.
ومع الأسف فإن صلاة الفجر هي أكثر فرضٍ يضيعه الملتزمون الجدد في بداية الالتزام لِما اعتادوه من حياة الكسل والخمول أو العجز، فإياك أن تتراجع إن رأيت في نفسك صعوبةً في التزام الفجر في وقته، بل احرص على استعمال المنبه وإن فاتتك الصلاة في حينها فقُم واقضِها، و جدِّد العزم على تِكرار المحاولة حتى يفر الشيطان منك ويسأَم، ثم داوِ هذه العثْرة بأن تستدرك نفسك بعمل آخر، إن أنت ضيعت صلاة الفجر.
مثلًا أن تُلزِم نفسك بقراءة وردٍ من القرآن مُضافٍ أو إخراج صدقةٍ أو صلاة نافلةٍ، تلتزم بأدائها إن أنت فَوَّتَّ على نفسك أداء هذه الصلاة في وقتها، وهكذا سيعتاد الشيطان منك طريقةً مختلفةً في الحزم مع النفس إن خانتْك قدرتُك على الوفاء بالموعد، عوِّدْه أنك إن ضيَّعت الفجر فستُقبل على أنواع الخير التي تغيظُه لعلك تستدرك ما فاتك من أجرٍ عظيم فيخنَس، واحتسب واتَّعِظ وكن من العازمين على أن لا يفوتك بعدها صلاة فجرٍ أبدًا.
Embed from Getty Images
وخير ما تحفظ به سائر الصلوات هو المبادرة لأدائها في أول الوقت، تعاملْ معها كمواعيدَ ثابتةٍ يجب أن تفيَ بها، إياك والتسويفَ، فما إنْ تسمع النداء أو منبه الصلوات قم وصلِّ. بهذه الطريقة ستضمن هزيمة الشيطان هزيمةً ساحقةً. وبهذه الطريقة ستصبح المواقيت الخمس حياتيةً في يومك وليلتك، قد أدمنْتَها بانتظامٍ فأصبحتْ لك كالماء، لا يمكنك الاستغناء عنها فهي جزءٌ منك.
لذكر الله حلاوةٌ تربطك بالسماء
لاحظ معي أن العبادات القلبية أنواعٌ وذكر الله أحد هذه الأنواع، وأيضًا الذكر بحد ذاته أشكالٌ مختلفةٌ، منها أذكار الصباح والمساء، فاحرص على التزامها كما يلتزم المرء ضرورات الحياة، احفظها أو اقرأها من كُتَيِّبِك، المهم ألا تتوانى فيها، وإن فاتك أداؤها في وقتها فبادر لذكرها في اللحظة التي استحضرت فيها أنها فاتتك، قال ابن القيم رحمه الله: أذكار الصباح والمساء بمنزلة الدرع كلما زادت سماكته لم يتأثر صاحبه، بل تصل قوة الدرع أن يعود السهم فيصيب من أطلقه…
لذكر الله حلاوةٌ تربطك بالسماء… بخالقك في إقبالٍ، فأنت تنعِش روحك وكينونتك بذلك التفكُّر ومداومة الاتصال بربك، قال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). [2] فاجعل كل حركةٍ وسكنةٍ في هذه المرحلة-وغيرها-معلقةً بالله… بالتفكر وبالدعاء، الدعاء عند الأكل وعند الفراغ منه، دعاء الخروج من المنزل دعاء الدخول إليه، دعاء الدخول إلى الخلاء، دعاء الخروج منه، دعاء لبس الجديد، عند النوم والاستيقاظ، تعرَّف على الأذكار والأدعية، واجعل حصن المسلم رفيقًا صغيرًا يسكن في جيبك، سيسهِّل عليك استذكار الأدعية ويسهل عليك التعرُّف على أسرار هذا الذكر.
يتسرَّع بعضهم في الذكر بالاهتمام بالكثرة وأنا أقول عليك باستشعار الذكر والإخلاص فيه، كانت رابعةُ العدوية تقول: “أستغفر الله من قلة صدقي في قولي، أستغفر الله”.
Embed from Getty Images
فَعِشْ حقيقة الذكر وليس لفظ الذكر فحسبُ، إنه أمرٌ جِدٌّ وليس بهزل، أن تذكرَ ربك وتصبح من الذاكرين ثم يذكرك الله فيمن عنده من خير ما خلق! فيا لها من مرتبةٍ سهلٍ منالُها وقليلٌ همُ المسابقون لها.
قال صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه… ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)[3].
انظر الآن هل تستوي حياة ذاكرٍ لله وغافلٍ عن ذكر الله، كلا بلا شكٍّ، إن حياتك يكسوها اليوم نوعٌ من الخشوع، تزدان بالقوة والتحرر، وقوة البصيرة والتأمل، أصبحْتَ تشعر أنك مختلفٌ، متزنٌ محلِّقٌ!
فالله سبحانه بقدر تقرُّبِك منه يقترب منك، قال الله تعالى في الحديث القدسي: “من تقرّب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً”.
وبقَدْر صدقك في الإقبال بقَدْر استشعارك لقوةٍ في الإيمان وتغييرٍ جذريٍّ في حياتك.
إن التزام ذكر الله سيخفف عليك أعباءً كثيرةً من بينها تسلل الشيطان في كل حينٍ لتأخيرك عن الصلاة ومنها شَغْلُك بسفاسف الأمور وملهِيات الدنيا التافهة ومنها إضعاف إيمانك وإغراقك في بحر الغفلة والنسيان.
لذة الوصال
كن اليوم سعيدًا فأنت مسلمٌ يصلي ويحافظ على أذكاره، ويا له من إنجازٍ، إياك وحرقَ المراحل لا تعاجلْ نفسك ليقال هذا ملتزمٌ، التزامك الداخلي أهم من التزامك الخارجي، فالأساس أهم من الطلاء، والعبادات حين تكون بإيمانٍ راسخٍ ويقينٍ متجذرٍ خيرٌ من عباداتٍ شكليةٍ حركيةٍ لا تقدِّم إلا مظهر الجوارح! أنت تحصِّن اليوم صدرك وقلبك من كل اختراقٍ يتربص به فكُن على ثقةٍ أنك تمشي في الطريق الصحيح وأن أي شدةٍ ستزول مع مداومة هذه الطريقة ومحاربة حبائل الشيطان بالذكر ثم الذكر ثم الذكر. وإن خشَع قلبك لزامًا ستخشع جوارحك.
ثمةَ أقوامٌ يلهج لسانهم بذكر الله إنهم أناسٌ استشعروا تلك اللذة في الوصال، لأنها لذةٌ لا تنتهي، فظهرتْ ملامحها على وجوههم كنورٍ يشع في ضوء النهار، فإن منَّ الله عليك بمثل هذا التميّز فاشكر الله ولا تغترَّ بنفسك فإنما هو فضلٌ من الله منَّ به عليك لتفر أكثر لله ولتشعر بالتواضع والإنابة لا الكبرِ والاستعلاء على من حولك.
وكلما رأيت في نفسك إقبالًا والتزامًا، اشكر الله واحمَده على هذا الفضل ولا تَعُدَّه ذكاءً منك بل هو كرمٌ من الله، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فحافظ على النعمة وداوِم عليها حتى تتذوق لذةً من الإيمان يغبِطك عليها الأولون والآخرون.
قوِّ بنيان إيمانك في الداخل، استعن بمطالعة الرقائق وأسرار العبادات القلبية، كن عمليًا واجعل قراءاتك وَفق حاجتك الروحية، فإن كنت تعمل على تعويد نفسك الذكر فاقرأ عن أجر الذكر وتاريخ وسِيَر الذاكرين، وإن كنت تريد إتقان أدائك للصلوات فاقرأ عن أجر الصلاة وكيفية الخشوع في الصلاة وتاريخ وسير المصلين الذي كانوا يعتمدونها كعمادٍ لا يستقيم لهم عملٌ بدونها، انظر كيف كانت الصلاة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعين والفاتحين والعظماء في تاريخ الإسلام، ها قد وضعتَ يدك الآن على سرٍّ من أسرار النجاح والفوز.
فتح القسطنطينية
الموسيقى عدوٌّ لدودٌ للذكر
ثم اعلم أن الأغاني والموسيقى عدوٌّ لدودٌ للذكر، لن تستطيع أن تنجح في ترسيخ هذه العبادة في قلبك وجوارحك حتى تتخلص من كل ما يسمى غناءً وموسيقى وإن كنت ممن يدمن هذا النوع من اللهو في سابق عهدك فاستبدله بالأناشيد الإسلامية التي تخلو من الموسيقى والتي ستملأ فراغًا اعتدْتَ أن تملأَه بما يضرُّك ولا ينفعك، بما يلهيك ولا ينجيك.
قم وتخلَّص من كل شريطٍ أو ملفٍ للأغاني على أجهزتك السمعية والبصرية، إياك والتردد، هذه خطوةٌ تحتاج لحزمٍ كما كنت حازمًا أولَ ما قررت أن تصلي ولو كره الجميع ممن يقاسمك الحياة تحت سقفٍ واحد، تذكَّر كيف كان الصحابة حازمين مع ما يهدد إيمانهم وعباداتهم، تذكر كيف أُريقت الخمر في الشوارع وهم قومٌ قد جُبلوا على شُربها في الجاهلية، لم تأخذهم لحظة وهنٍ واحدةٌ، هكذا يفعل الإيمان بقلب المُقبِل.
وللإقبال متعةٌ وللفرار إلى الله أثرٌ، ولن ترى توفيقًا في عبادتك والتزامك إن لم تقرِنْه بالاستعانة بالله في كل حركاتك وسكناتك، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[4]، أعظِمْ التوكل على الله، أحسن الظن بخالقك، تدبَّر في ملكوت السماوات والأرض، تفكَّر بعمقٍ، ما خلق الله هذا باطلًا! اِصبر على تكاليف الطريق المستقيم وهجران الملذات الدَّنِيّة، سبِّح بحمد ربك، استغفره في كل حين، صلّ على النبي الكريم، ادعُه تضرعًا وخفيةً واسجد واقترب، فما زال أمامَك مشوارٌ يستحق ذلك.