بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ـ وقفات مع حقوق الجار .
* ـ عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله : ((والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن))، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثُه)) متفق عليه .
هذان حديثان من مشكاة النبوة ، التي تهدي إلى مكارم الأخلاق .. وجميل الصفات ، وتوجه إلى البر والإحسان ، وتدعو إلى المودة والرحمة والشكران .
وإن من أعظم ما قرره الإسلام وأثبته ، حق الجار ، فقد جاء به كتاب الله تعالى ، وبينه رسول الهدى .
لقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الجيران ، قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا)[النساء : 36] .
تضمنت هذه الآية الكريمة عشرة حقوق ، حتى عُرفت بين أهل العلم بآية الحقوق العشرة ، بينها حق الجار ، فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه ، وأكد على ذلك بذكره لهذا الحق بعد ذكر الوالدين والأقربين .
* ـ والجيران ثلاثة : * ـ فجار له ثلاثة حقوق ، وجار له حقان ، وجار له حق واحد ، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب، له حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار ، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم ، فله حق الإسلام وحق الجوار ، والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار .
وإن أولى الجيران بالرعاية والإحسان من كان أقربهم بابًا إليه ، وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله لهذا فقال : "باب : حق الجوار في قرب الأبواب" ، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، إن لي جارين ، فإلى أيهما أهدي ؟ قال : ((إلى أقربِهما لكِ بابًا)) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : "والحكمة في ذلك أن الجار الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هديةٍ وغيرها ، فيتشوف لها ، بخلاف الأبعد ، وكذلك فإن الأقرب أسرع إجابة لما قد يقع لجاره من المهمات ، ولا سيما في أوقات الغفلة" .
وقد ذكر العلماء عدة أقوال في حد الجوار ، فقال بعضهم : هو الملاصق لبيته ، وقال آخرون : إن أربعين دارًا من كل ناحية جار ، وقيل غير ذلك .
* ـ ولقد أكدت الشريعة الإسلامية على حقوق الجوار ولزوم القيام بِها في أمور عديدة ومجالات مختلفة منها : * ـ التودد إلى الجار والإحسان إليه والبرُّ به وإكرامه ، ويتمثل ذلك بالإهداء إليه مما يأكله ويشربه ، ومما منَّ الله تعالى به عليه من النعم ، فقد روى أبو ذر قال : قال رسول الله : (يا أبا ذر، إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك) أي : تفقدهم بزيادة طعامك ما تحفظ به حق الجوار .. وقال : ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)) .
وفي ذلك حض على مكارم الأخلاق وإرشاد إلى محاسنها ، لما يترتب على هذا الإهداءِ من المحبةِ وحسن العشرة والمودة والألفة ، ولما يحصل به من المنفعة ودفع الحاجة ، فقد تصل إلى الجيرانِ رائحة الطعام ، فتتوق نفوسهم إليه ، لا سيما الصغارُ من الأولاد ، فيشقّ على القائم عليهم ذلك ، خاصةً إذا كان فقيرًا لا يستطيع توفير مثل ذلك لهم .
وفي هذا حثٌ على البذل والإنفاق ، وتعويد النفس على السخاء والكرم ، وتطهير لها من البخل والشح ، وذلك من صفات المؤمنين .
وينبغي تبادل الهدايا بين الجيران ولو كان شيئًا يسيرًا ؛ لأن الأكثر لا يتيسر في كلّ حين ، وإذا تواصل الناس كان كثيرًا ، وقد قال : ((يا نساء المسلمات ، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسنَ شاة)) .
ومن حقوق الجار أن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع ، كأن يستشيره في أمر من الأمور ، أو يطلب مساعدته في قضاء حاجةٍ له ، أو يرشده في مسألة يجهلها ، وينبغي أن يبدأه بالسلام ، ويتفقد أحواله ، ويعوده إذا مرض ، ويعزيه في مصيبته ، ويهنئه في أفراحه ، ويشاركه في مسراته ، ويعفو عن زلاته ، ويصفح عن هفواته، ويلاحظ منزله عند غيابه ، ويتعاهد أولاده فيما يحتاجون إليه عند سفره .
ومن حقوق الجار أيضًا كفّ الأذى عنه ، فقد قال : ((من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فلا يؤذِ جاره)) رواه البخاري .
فيجب على الجار أن لا يتعرض لجاره بأي شيء يسوؤه ، فلا يتطاول عليه بيده ولا بلسانهِ ، ولا يعيره بشيء أو ينتقص منه ، ولا يضايقه في طريقه ، أو يلقي النفايات عند بابه، أو يوقف سيارته موقفًا يتأذى منه ، أو يزعجه بأبواق سيارته أو بأصوات تتعالى تؤرقه في نومه أو تقلق راحته ، وقد قال : ((والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن))، قالوا : من يا رسول الله ؟ قال : ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري .
والبوائق هي الحقد الباطن وسائر أنواع الشر والأذى .
فالذي يتعرض لجيرانه بالأذى ، ويسيء إليهم ويستمر على ذلك ، بلا مبالاة ودون مراعاة لحقوق الجار إنما يكشف عما في داخل قلبه من الحقد والكراهية ، وذلك أمر قادح في إيمانه بأعظم ركني الإيمان ، وهما الإيمان بالله واليوم الآخر ، فالإيمان محله القلب ، وهو أمر باطني ، والأعمال دليل على وجوده أو على عدمه ، فمن ادعى الإيمان وأقواله وأفعاله تناقض إيمانه فدعواه باطلة .
ليس حق الجوار كف الأذى فقط ، بل أن يتحمل ما يصدر من جاره من إساءة إليه ، فيقابلها بالإحسان والعفو والصفح ، وقد قال : ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه ، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره)) قال الحسن البصري رحمه الله : "ليس حسن الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى" .
من هذه النصوص الشرعية والتوجيهات النبوية يتبين لنا عظم حق الجار ، من الإحسان إليه وكف الأذى عنه واحتمال ما قد يصدر منه ، لكن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يجد أن المدنية الزائفة قد ألقت بظلالها على حياتهم ، فتناسوا هذه الحقوق الواجبة عليهم تجاه جيرانهم ، وأعرضوا عنها وأهملوها ، فلا تكاد ترى مظهرًا من مظاهر الصلة المستمرة والعلاقة الوطيدة بين الجيران ، فقد أشغل الناسَ عن القيام بتلك الواجبات كثرةُ تهافتهم على المادة ، وانشغالُهم بملذات الحياة ، وتَعْجَبُ كثيرًا حين تعلم أن شخصين في حي واحد ، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عدة ، لا يدخل أحدهم منزل جاره خلال هذه المدة ، ولا يتفقّد أحواله ، وقد يسافر الجار أو يمرض أو يحزن أو يفرح وجاره لم يشعر بذلك ، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه ، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدمًا بين الجيران ، والعداء ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل ، وذلك كله مخالف لهدي الإسلام وتعاليمه ، فلا بد من وقفةٍ نراجع فيها أنفسنا ، ونصحح فيها أحوالنا ، ونعمل على تطبيق التوجيهات النبوية الواردة في القيام بحقوق الجيران والوفاء بواجباتهم والإحسان إليهم .