من المؤكد أن عدد سكان دولة فيسبوك سيبلغ مليارًا هذا العام، فإذا ما استمرت الزيادة في عدد مواطنيه على هذا النحو، فسوف يصبح أكبر دولة في العالم ويتجاوز عدد سكان "الصين" عام 2014. وهو اليوم ثاني أكبر المواقع انتشارًا بعد "جوجل" والأول من حيث عدد الصور والروابط وأعداد الزائرين.
من أطرف ما قرأت في وصف فيسبوك بأنه أكبر مزاد للكذب في العالم، كونه المجتمع الوحيد الذي يطلب فيه الناس صداقتك، لكنهم يتجاهلونك فيما لو شاهدوك في مكان عام. في هذا العالم المزدحم تبدو العلاقات رائعة مع أنها مائعة. تبدأ العلاقات الحميمة بالاختيار أو البحث أو المصادفة، وتنتهي بنفس الطريقة وبآلاف الطرق الأخرى. إنه دولة مزيفة يطلبك فيها الأعداء، وأحيانًا يرفضك فيها الأصدقاء والأقرباء. وأسوأ ما في هذا الكيان لا المكان، أن كلمة (لايك)؛ أي أحبك أو أقبلك، صارت أشهر كلمة في التاريخ، في وقت فقدت فيه معناها.
إلا إن ما سبق لا يشكل سوى الجانب السطحي من غرائب الفيسبوك. على الفيسبوك تختلط الأديان بالسياسة والاقتصاد، والرذيلة بالفضيلة، والوطنية بالخيانة، والمقدسات بالمدنسات، والطبقات بالفئات، والأفراد بالشركات، والخاص بالعام، وفيه تتلاقى وتتلاقح وتتقاطع وتتصارع الجنسيات واللغات. فهو عالم لامع وغائم، تسوده فوضى منظمة، لا يمكن لأحد أن يعلم أو يحلم، إلى ماذا ستؤول وإلام ستطول.
للفيسبوك قطعًا حسنات، وهو كأي كيان يديره ويستخدمه الإنسان، ينطوي على إيجابيات وسلبيات. لكن سلبياته تفوق حسناته. فتداعياته وانعكاساته على مستقبل البشرية وخططها واستراتيجياتها التنموية لم تتضح بعد. لكنها ستبدأ بالظهور مع الأيام، وأتوقع أن يبدأ بعض مواطنيه بالتخلي عن جنسياتهم لصالح دول وقبائل إلكترونية أخرى. فالإنسان كائن اجتماعي وودود وعاطفي وحساس بطبعه. ونظرًا لما ينشر على حوائطه من كذب وتزوير، وما يعلق عليها من صور تكذب أكثر مما تتجمل، فإن الإقامة الطويلة فيه، تفقدنا هويتنا، وتستنفد طاقتنا الشعورية، وتخفض إنتاجيتنا العملية، وتصيبنا بالأمراض الجسدية والنفسية.
عندما تكتب أو تنشر أو تعلق أو تبدي إعجابك أو تعلن انسحابك من صفحة ما، أنت تعرف أن أفعالك وأقوالك سوف تنسى في لحظات. فهو ثقب أسود، يلتهم كل ما يلقى بين فكيه بسرعة البرق. ورغم ما يوفره من أدوات البحث والعرض، فإنه تحول إلى أكبر مزبلة ومكب للنفايات الإلكترونية في تاريخ البشرية. فالداخل إليه كما الخارج منه؛ مفقود وغير موجود. وهو في تقديري مقبرة للمواهب الصاعدة والأقلام الواعدة
تجربة الفيسبوك تكون في البداية ماتعة، لكنها في النهاية غير نافعة. من بين أصدقائي ثلة من الموهوبين بينهم: باحث ومؤلف وكاتبة قصة وشاعر وصحفي. ألاحظ أن هؤلاء المبدعين الجادين يفقدون وهجهم بالتدريج، فهم ينثرون ويهدرون أفكارهم ومقالاتهم وبذلهم الوجداني وعطاءهم الإنساني، على دفعات وبسرعات لا تتوافق مع فنون الكتابة والتعبير والتأثير؛ فتجد نبذًا وقصاصات من إبداعاتهم تتوالى بارتباك وبأخطاء مطبعية ولغوية وأسلوبية تسيء إلى صورهم الذهنية، وتستنزف طاقتهم الإبداعية.
إن لم تكن من أصحاب هذا الكائن الهلامي، لأهداف تسويقية وعملية جادة، أدعوك للانسحاب بهدوء من دولة الفيسبوك، والعودة سالمًا لا مستسلمًا إلى حياتك الطبيعية. لا سيما وأن مملكة الفيسبوك ستتحول عما قريب إلى ساحة للفضائح، بعدما أضيفت إليها خاصية تسمح لأصحاب المجموعات والصفحات بمعرفة من دخل حماهم، ومن مر لمشاهدتهم؛ دون أن يلقي التحية، أو يرد السلام.
نسيم الصمادي