[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][rtl]يقظان التقي[/rtl]فكرة الموت تعكس الكثير من التحولات المادية والنظرات الفلسفية المتحولة، وتجيء فكرة كتاب الزميل وفيق غريزي «نظريات فلسفية حول الموت» لتؤطر موضوعاً وصراعاً وجودياً كان موجوداً في عمق القراءات الفلسفية والقراءات المختلفة.
اعترف لم أجد حماسة كبيرة وبشكل مركزي في جعل الموضوع يقفز الى سلّم الأولويات والسبب بروز الأخطار المادية الكامنة في اليوميات ولدرجة تتماثل فيها الأفكار ليأتي موضوع الإصدار ليؤطر صراعاً وجودياً يحتاج الى أن نكون معه واقعيين أكثر، أشد واقعية من الواقع المعيش نفسه، ونتبين ببساطة أن العالم لا يقف عند حدود الموت نفسه.
كان عليّ أخذ فصول الكتاب رزمة واحدة، أقبله أو أرفضه كرزمة واحدة، وتطلّب الأمر إعادة النظر في المقاربة لفكرة صارت ببساطة حداثية وكونية وجودية.
ولا شك أن الفكرة تحدث تحولات كثيرة على كافة الصعد المعنوية والمادية والعلمية والإنسانية، وأفرزت العلوم والفلسفة نفسها كشوفات هائلة في اللاوعي الإنساني وفي السلوك الإنساني نفسه، والتحولات نفسها أيضاً في العلوم الطبية والفيزيائية والكيميائية وفي علم الاجتماع.
الفكرة المهمة كانت في التحفيز على القراءة، وفي توظيف قدرة الإنسان على تجاوز فكرة الموت نفسها، وفي استدعاء تأويلي باتجاه أخلاقي واتجاه آخر عدمي عبثي ما زال يقلق المجتمعات الحديثة.
بحث غريزي له علاقة بالوجودية، وبالإشارة الى تفرد الإنسان بلغة الولادة والموت والمعاناة وفق نظريات كثيرة غير واضحة المعالم وبعضها يعود الى فترات متباعدة جداً في نظريات الخلق الأولى والفيض والنور، والمثل الإغريقية/السقراطية، والألواح الفرعونية الى الإنساق الفلسفية التي عرفتها الفلسفة مع هيغل وهايدغر..
ما الذي يقصده الزميل غريزي وكتابه بالبحث عن سياسة الموت. ودوافع هذا الاجتماع في فصول الكتاب، في ما تقوله فلسفة الموت واهتمامات الفلاسفة الكلاسيكية والمعاصرة والتصورات المختلفة، وهل المطلوب قراءة مقارنة لتلمس جوهر الخلافات والمفارقات الفلسفية أو الاقتراحات في المنهج التأويلي لنظرية الموت وفلسفة الحدث الوجودي الأكثر غموضاً وتعقيداً وتأثيراً ودوامة الإجماع الإنساني منذ نشوئه الأول؟
شرط الوجود هو التأثر والتأثير. فكرة الموت بمقدار ما هي مؤلمة/ مأسوية/ تراجيدية بمقدار ما هي سلبية، هي فكرة ايجابية، ومرعبة لآخرين، باعتبارها نشوة خلاص.
حتى الحياة هي تجهيز للموت، وما الموت إلا ذلك العريّ للمطلق، للصمت الذي يقول أشياءه الحقيقية.
دراسة غريزي تتوزع على فصول وتأتي بجهود حثية بذلها تمتد من التمهيد الى الفصل الذي يميز بين الموت الطبيعي والموت الرمزي، وفصل يتناول فكرة الموت قبل سقراط، وفصل آخر يتعرض لفكرة الموت بعد سقراط. ويعالج الفصل الثالث فكرة الموت بعد الفلسفة المدنية، عصر التنوير الفرنسي، العصر الرومنطيقي، الفلسفة الوجودية، علم النفس في أنساق متتالية تمتد الى فكرة الموت في الفلسفة العربية.
فصول تتناول مسائل فكرية نظرية حول الفناء والوجود بين اليقين والشك.
مادة كبيرة نظرية تجول حول الفكرة والمفاهيم والغايات، ليست اكتشافاً، ولا تحدث ثورة حقيقية، وتأتي في سياقات متصلة بالمعنى التاريخي والمعنى الرمزي والمعنى الأخلاقي والمعنى التأويلي أو الصوتي..
المعني التأويلي يعوزه ربط أكثر بجسور بحثية منهجية في النقد الأدبي والفلسفي، والزميل غريزي ينزل في نهر كبير تجريدي أكثر كمنهجية بحثية بحيث لا تأتي بعد بجديد يغني الفكرة العامة بطريقة ما. وقد يكون الاستعراض العريض إشارة ليست عرضية الى محدودية الدلالة في الكتابة باعتبارها سمة حداثية. وكان الكاتب يكتفي بالانتقال الى الفكرة أو تلك.
قد يعود ذلك الى صعوبة المبحث، وصعوبة المنهج التأويلي نفسه ومن المستحيل أن يكون توفيقياً، ويكتفي القارئ بالجانب الشكلي للنص ولا يعتمد لغة مقارنة وجودية مرتبطة بالزمان والمكان وبحدود اجتماعية وتاريخياتية عند هذا المبحث أو ذاك.
استفاد غريزي مما هو موجود حول الفكرة التي أعدّ لها جيداً، وفي تصوّره أن النصوص والفصول تقود الى احتمالات تأويلية متغايرة وتعكس موقفاً من العالم الخارجي وتترك للقارئ أن يتفاعل مع النص الفلسفي ومقاربته بالنصوص الأخرى.
في النهاية يرسم غريزي خارطة طريق خاصة بكل قارئ، فرضيات تأويلية/ نظرية تصمد انطلاقاً من معطيات النص الفلسفي نفسه ويُعاد بناؤها وترميمها في نص آخر أو إمحائها كلياً. فيصير الموت سيرات فلسفية تأويلية تطمئن الذات المتلقية.
الكتاب يأتي من ضمن قواعد منطقية لكن تعوزه منهجية تدخل الأنساق الأكاديمية المتعارف عليها والمراجع والمصادر والهوامش في صلب المتن والهامش في استدعاء أساسي جداً في فهم السياقات الفكرية التأويلية، والتي تحتاج الى صيغة حقيقية تتوخى الوضوح وملاحقة الأصل منعاً لالتباسات تصير أفكاراً رئيسة، ولكان أضاف فيها المؤلف بعداً مهماً للجهود الكبيرة والحقيقية المنجزة. وغريزي كاتب مجدّ في الدروب الموصلة الى المعرفة وليس كتاب الأول المنجز.
هذه الهوامش المنهجية لا تكفي التمرين الذهني الموجع الذي سلكه في حديثه عن المذاهب الفلسفية، مما يشهد على إحاطته الواسعة والمتفقة مع موضوع حساس جداً ومعقد. فيصدر كتاباً يشكل مادة مرجعية شبه محكمة يمكن العودة اليها، في أربعمئة صفحة ترصد النظريات الفلسفية حول الموت منذ ما قبل سقراط حتى نيتشه وفرويد وهايدغر من دون أن يفضل ما قاله الفكر العربي في رحلة إدراك معرفي صعبة على الحدود بين المادة والروح التي تصير فترة تملك خصوصيتها البحثية في وهم الحياة والخلود معاً، كطاقة عبور إيمانية مجدّة. هنا يتميز المؤلف.
(...) أعظم ظاهرة أحاط بها الإنسان وتصرف معها بالهيبة والوقار هي ظاهرة الموت، لقد انقرضت طقوس التلقين والسيامة في مجتمعات وشعوب كثيرة، وتراجع الاهتمام بالمراسيم الدينية في الزواج والميلاد، لكن الموت ما زال يفرض قداسته ويبعث في الإنسان أحاسيس روحية.
فمنذ تجلي ظاهرة الموت الأول، والبشر لا يزالون أمامه على ذهولهم الأول عينه، وعلى رعبهم الأول ذاته، وعلى حيرتهم نفسها، لا شيء تغيّر، وكأنما حكمة العصور وفلسفة الدهور، وعلم الأجيال هباء يتبدد أمامه الموت، سيداً للحقائق جميعها. الموت في جوهره قيد على وجود الإنسان، ولكن حيث هناك حديث عن القيد، فلا يمكن أن تكون هناك حرية، وإلا كان الحديث عن القيد عبثاً. ولهذا قيل إن طبيعة الموت هي الكلية المطلقة، جميع البشر فانون، وكل نفس ذائقة الموت، لا محالة، إن الموت يتبع إزاء الجميع سياسة ديموقراطية تقوم على المساواة المطلقة، إذا صحّ التعبير، فلا يعرف التمييز بين البشر، لكنه رغم هذا الطابع الكلي المطلق، يحمل طابع الشخصية الجزئية المطلق، لأن موت الفرد شخص خاص، فكل منا لا بد أن يموت وحده، ولا بدّ أن يموت هو نفسه، ولا يمكن لأحد أن يموت نيابة عن الآخر أو بدلاً منه.
يرتبط الموت في كثير من التفسيرات الدينية بالحرية، في الوقت الذي لا توجد فيه الحرية، إلا إذا كانت هناك حياة ووجود، أعني لا توجد حرية إلا بعيداً عن الموت، يقال إن الموت دخل العالم بسبب خطيئة آدم التي أدت الى طرده من عالم الخلد، فأصبح لأول مرة قابلاً للفساد والموت. ولما كانت الخطيئة الأولى تعبيراً عن ممارسة الإنسان لحريته لأول مرة فقد كان هناك ارتباط وثيق بين الموت والحرية.
والجنس البشري هو الجنس الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، وهو يعرف ذلك من خلال التجربة. إن دراسة الموت في الفكر الفلسفي عموماً نادرة، لأن آخر ما يفكر به الرجل الحر هو الموت. لأنه حكمته ليست تأملاً في الموت، بل تأملاً في الحياة. ولكن لا نعدم نماذج من الفلاسفة من أمثال: شوبنهاور، ذهبوا الى أن الموت هو الموضوع الذي يلهم الفلسفة والفلاسفة، وعدم اهتمام المفكرين بدراسة الموت ليست إلا قراراً من مواجهة هذا الموضوع.
ولكن كيف وصلت البشرية الى النتيجة القائلة بأن الموت أمر حتمي؟ إن القول بأن الإنسان يعرف ذلك من خلال التجربة، إنما يضفي الغموض على حقيقة أنه لا بد من الوصول الى مرحلة معيّنة من التطور النفسي والعقلي قبل أن يتعلم الإنسان من التجربة، فالإنسان البدائي الذي أتيحت له بالفعل فرص لمراقبة الناس وهم يموتون فوق ما أتيح للإنسان المتحضر في ظل الظروف العادية، وحيث أن الإنسان البدائي كان عاجزاً، على نحو جليّ، على أن يستخلص من هذه الملاحظات النتيجة الواضحة، فإن الإنسان استطاع أن يكشف حتمية الموت حينما تجاوز العقلية البدائية، أي حينما كف أن يكون بدائياً. وفي غمار عملية النمو تلك فإن أكثر الخطى أهمية هي الاتجاه نحو الفردية، فطالما كان الإنسان البدائي جزءاً من العشيرة، أو من القبيلة، فإن أهم سماته تتمثل في المكانة التي يحتلها فيها. إن الوعي بالموت يمضي جنباً الى جنب مع الاتجاه الإنساني نحو الفردية، ومع قيام الكيانات الفردية المتميزة، فما أن يحقق الفرد مضموناً يختص به وحده، حتى يتجاوز حدود العشيرة أو القبيلة، حدود البعث من جديد في العشيرة والميلاد الجديد بداخلها.
أما في ما يتعلق بالاكتشاف الأصلي من جانب الإنسان لحتمية الموت، فإن المشكلة الجلية هي تحديد الكيفية التي تم بها تحصيل المعرفة التي جرى في ما بعد قبولها وتقبّلها عن طريق الإيمان. ومن الممكن تماماً التحديد، فإن المعرفة بحتمية الموت قد غدت، شيئاً فشيئاً ملكية مشتركة للإنسانية، ومن ثم لا يتعيّن النظر اليها باعتبارها اكتشافاً جاء كالحادث الفجائي. وبالرغم من ذلك فقد أتى حين من الدهر غدت فيه الفكرة متّسمة بالشمول، أما متى حدث ذلك فأمر ليس من الممكن تحديده بأي درجة من الدقة، غير أن ما يثير الاهتمام أننا إذا ما استخدمنا ملحمة جلجامش كعلامة على الطريق، بل إذا ما سمحنا ببضعة آلاف من السنين لاحتمال القصة قبل السجل المدون، فإن اكتشاف حتمية الموت يظل أمراً حديثاً نسبياً بالمقارنة بإجمالي وجود الإنسان على الأرض.
أن تعلم «حتمية الموت لا يعدو أن يكون المرحلة الأولى من اكتشاف الإنسان للموت، وعلى الرغم من أننا نجد بالفعل في ملحمة جلجامش معظم الموضوعات الخاصة بتأمل الموت، أي الرهبة والشعوب بعبث الحياة ومشكلة كيفية الحياة في ضوء الحقيقة المريرة القائلة بأن هذا التغيير الجذري من الحياة الى الموت هو أمر حتمي، فإن مواجهة جلجامش للموت ليست كاملة، إذ ما حاق به الدمار هو فحسب الاعتقاد في الخلود على الأرض، الإيمان باللاموت، أما أن يكون الموت فناء شاملاً فلا يزال أمراً موضع تشكك فقط. وفي إطار التأملات البابلية والأشورية، لم يُنظر الى الموت باعتباره النهاية المطلقة للحياة، أو على أنه يؤدي الى الفناء الكامل للحيوية الواعية، ولكنه كان يعني انفصال الجسد عن الروح وتحلل الأول وانتقال الروح من نمط للحياة، أو للوجود الى نمط آخر، إن الروح تهبط الى العالم السفلي لتقيم هناك من خلال الأزل، وهناك عديد من الأدلة على هذه النقطة.
هكذا، فإنه على الرغم من اكتشاف حتمية الموت يؤدي الى صدمة عميقة، وأن الإنسان لم يتقبّل من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض بكل بهائها أو الفقدان الحتمي لأحبائه، فإن هناك عزاء يتمثل في الإيمان بالبعث والخلود، ومن ثم نقبل أن يتمكن الإنسان من اكتشاف الموت على إطلاقه، أي قبل أن يستطيع إدراك أنه قد يكون كذلك فناء شاملاً، فإن هذا الجانب الباعث على العزاء من الرؤية البدائية للموت تعيّن أن يتداعى. إن الإنسان البدائي «لا يعتقد أن أحداً يموت موتاً كاملاً، فالموت بالنسبة له، لا يعني بأي حال من الأحوال التوقف الخالص والبسيط لإشكال النشاط والوجود كافة، إنه لا يكون أمراً مطلقاً أبداً، ويبدو أن ما يفسّر لامبالاة الإنسان البدائي بالموت هو إيمانه بأن الموت هو فناء نهائي، وليس كما يعتقد البعض لأن تدريبه على عدم المغالاة في تقدير فرديته ولاعتياده تعريض حياته للخطر باستمرار فإنه يتخلى عنها بقدر كافٍ من السهولة.