المعصية عصيان العبد ربَّه ومخالَفته أمره؛ بأن يفعَل ما نهاه الله ورسوله عنه، أو يترك ما أمره الله ورسوله به؛ لأنّه اختار بذلك لنفْسه غير ما اختار الله ورسوله له شرعًا، وهذا هو الضّلال المُبين؛ قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} الأحزاب: 36،
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} الجن: 23.
المعاصي لها عقاب كبير؛ وبالاستِهانة بها وتبريرها والإصرار عليها، تتحقَّق العقوبات، وتَهلِك النُّفوس، وتَقسو القلوب، ويخرّب العمران، ويتعرَّض العُصاة للخِزي والخُسران، والشّقاء في الدّنيا والآخرة، وبالتّعاون على المعصية وإظهارها، عمَّت عقوبتُها مجتمعاتها، فاستأصَلتها؛ لتواطُئها على جرائمها، وإصرارها عليها؛ قال الله سبحانه وتعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} ق: 12-14.
والإصرار على المعصية هو نية عدم التّوبة والتّسويف بها، بأن يقول العبد غدًا أتوب رغم عِلمه بأنّه لا يملك الغد ولا البقاء إلى الغد، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة. قال العلامة العِزّ بن عبد السّلام رحمه الله: [الإصرار على الذُّنوب يجعل صغيرها كبيرًا في الحكم والإثم فما الظنّ بالإصرار على كبيرها]، وقيل: [الإصرار هو أن ينوي ألاّ يتوب].
كما أنّ المُصِرَّ على الذّنب تأنس نفسه المعاصي، وتزول منها هَيْبَة الله، فتجرؤ على فعل الكبائر، أمّا المُتَّقون فإنّهم لا يُصرُّون على الذّنوب، وهم يَعلمون قبحها والنّهي عنها، والوَعيد عليها، ويَعلمون أنّ لهم ربًا يغفر الذّنوب.
قال العارف بالله سهل بن عبد الله التُّستري رحمه الله: [الجاهل ميّت، والنّاسي نائم، والعاصي سكران، والمُصرّ هالك]. وقال الجُرجاني رحمه الله: [الإصرار: الإقامة على الذّنب والعَزم على فعل مثله]. وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله: [الإصرار: أن يعمَل الرجل الذّنب فيحتقره]. وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله: [اعلم أنّ الصّغيرة تكبر بأسباب منها: الإصرار والمواظبة، ولذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، فقطرات من الماء تقع على الحجر على توالٍ فتؤثّر فيه، فكذلك القليل من السيّئات إذا دام عظم تأثيره في إظلام القلب].
وجاء عن بعض السّلف رضي الله عنهم: [ومِن الإصرار: السُّرور بالصّغيرة، والفَرَح والتّبجُّح بها، فكلّما غلبت حلاوة الصّغيرة عند العبد كبُرت الصّغيرة، وعظم أثرها في تسويد قلبه، حتّى إنّ من المُذنبين مَن يتمدَّح بذنبه، ويتبجَّح به لشِدَّة فرحه بمقارفته إيّاه]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال وهو على المنبر: “ويل للمُصرِّين الّذين يُصرُّون على ما فعلوا وهم يَعلمون”.
ومن الإصرار أيضًا أن يتهاون العاصي بستر الله عليه وحلمه، ولا يدري أنّ الله ربّما يمهله مقتًا ليزداد بالإمهال إثمًا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} آل عِمرَان: 178.
فإيّاك والإصرار على المعاصي واستصغار الذّنوب أو المجاهرة بها، ولا تنظر رعاك الله إلى صغر المَعصية، بل انظر إلى عظمة مَن عَصيتَ، وانجُ بنفسك ودع عنك تحقير الذّنوب قولاً أو فعلاً، ولا تغترّ بمَن استصغروا الذّنوب وتساهلوا فيها، بل ربّما أعلنوا وجاهروا بها، فقد قال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “كلّ أمّتي مُعافَى إلاّ المُجاهرين”.
وتأمّل تحذير الصّحابي الجليل سيّدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قائلاً للتّابعين: “إنّكم لتعملون أعمالاً هي في أعيُنِكم أدَقّ من الشّعر، وإن كنّا نعدّها في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الموبقات
عبد الحكيم قماز